(الانتفاضة في لوحات الفنانين التشكيليين الفلسطينيين)



ابتكر الشعب أدوات نضاله اليومي ووسائط كفاحه، تكيفاً مع طبيعة المرحلة السياسية التي تمر بها القضية الفلسطينية في أروقة المجتمع الدولي والعربي والفلسطيني، وبما حملته حركة الإقدام والإحجام في دروب المقاومة المُسلحة والسياسية المنخرطة في واحة القمم العربية الرسمية ومقرراتها، وكانت الانتفاضات الفلسطينية بمثابة ردود طبيعية مُعبرة عن أصالة شعب فلسطين المفطور على الحرية، ومنغمسة في ملونات الصمود والمقاومة، انتفاضات شعبية مُباركة كانت وما زالت من أكثر الأسلحة المُعبرة عن إرادة الشعب الفلسطيني وأفعلها في مواجهة حالات التراجع المشهود على جبهة السياسية الوطنية الفلسطينية المتوافقة ما بين حين وآخر مع مصالح مُخططات دولية وإقليمية.




من لوحات الفنان الفلسطيني إسماعيل شموط

وما الإضراب "الستيني" المصاحب لثورة 1936 في فلسطين إلا نقطة البداية، ويوم الأرض الفلسطيني عام 1976 داخل فلسطين المحتلة عام 1948 كعلامة فارقة في تاريخ الشعب العربي الفلسطيني ومقاومته الشعبية، لتُشكل يوميات الانتفاضة الفلسطينية التي أعقبت عملية الطيران الشراعي الفلسطينية عام 1978 نقطة تحول في آليات المواجهة مع العدو الصهيوني في الوقت الذي دخلت المؤسسة الفلسطينية الرسمية في مصيدة التسوية الدولية والعربية عِبر تجليات الاتصالات السرية المحمومة التي واكبت ما قبل الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982 وما أعقبها من تدمير لروح المقاومة وترحيل الفصائل حركة المقاومة الفلسطينية في مناطق الشتات البعيدة عن فلسطين.




من لوحات الفنان الفلسطيني إسماعيل عشور


وكانت اتفاقيات أوسلو عام 1993 حلقة من حلقات الإحباط المتنامية في نفوس الشعب العربي الفلسطيني، ومُمهدة لردود أفعال ترتقي إلى مستوى دماء الشهداء ومسيرة أكثر من نصف قرن من المواجهة، التي عُبر عنها بانتفاضة الأقصى عام
2000 طريقاً ومنارة شعبية فلسطينية دائمة التوهج، وما زالت جذوتها مستمرة حتى الآن بالرغم من شلال الدم الفلسطيني والضحايا والمعتقلين والشهداء.





لوحة للفنان بشير سنوار


يوميات حافلة بالمشاعر والانفعالات والأحاسيس تُثير في النفس والعقل روح المقاومة والصمود والبحث عن مسالك أمل وعمل، وجدت لها تعبيرات صريحة في ميادين الفنون الفلسطينية التعبيرية المكتوبة والمرئية وفي مقدمها الفن التشكيلي الفلسطيني الذي وجدت أنامل الفنانات والفنانين وذاكرتهم البصرية، مُتسعاً لروايات سردهم المعجونة بدروب الألم والمعاناة والتحدي من خلال مُشاركتهم الثقافية الفاعلة، ومُعايشتهم اليومية للأحداث الفلسطينية البطولية والماجدة التي ساعدتهم في نقل صور الواقع وأشكال المقاومة الشعبية المُتاحة بالخط واللون والمطبوعة والتمثال والملصق ورسوم الكاريكاتير، وتحتفظ جعبة كافة الفنانين الفلسطينيين في داخل الحيز الجغرافي الفلسطيني التاريخي وخارجها في الدول المُحيطة والبعيدة بعشرات الصور والمآثر.


نجد في طيات أعمالهم الفنية التشكيلية صدق التعبير والتوصيل، المُعشبة بروائح الأرض وملونة بدماء الشهداء والجرحى تعزف نشيد الوطن والمواطنة في صور شكلية متعددة، تنطلق من حركة الجماهير الشعبية الفلسطينية الواسعة في سويعات الغضب المُصاحب لشهيدة هنا وشهيد هناك وهو مرفوع على الأكف ومجلل بعلم فلسطين وزهور الوطن من حبق وجوري وحنون، جامعة في جيدها مآثر الوداع وطبع القبلة الأخيرة فوق جبين طفلة بعمر الزهور أو مقاوم مُجاهد لاحقته قذيفة مدفع أو صاروخ طائرة صهيونية، أو شيخ يحمل بيديه حفنة من تراب وغصن زيتون.



من لوحات الفنان الفلسطيني أمين شموط

وآخرون يرسمون حجارة الوطن الفلسطيني الملونة بمكونات الشعب العربي الفلسطيني المادية والكائنات الحية (البحر والنهر، الجبال والورود، الزيتون والصبار، المساجد والكنائس، المدن والمخيمات، الشوارع والبيوت، الطيور والحمام) والبشرية (الكهول، الرجال، الفتية، النساء، الأطفال) في مواجهة مفتوحة مع آلات الحرب الصهيونية من طائرات ومدافع ودبابات وجنود متخندقين في مركباتهم المصفحة) مواجهة غير متكافئة العدة والعتاد لكنها حافلة بإرادة النصر وآيات الصمود الفلسطيني متعدد الأشكال.



من لوحات الفنان الفلسطيني عصام حلس

مواجهة محمولة بأبجدية البقاء، وشعب عربي فلسطيني آمن بمصيره المحتوم وأقداره المكتوبة والمحسوبة، بصدورهم العارية والمكشوفة وفي أيديهم راية الشهادة أو النصر وحفنة من حجارة الوطن، معبئين بإرادة الصمود أوصلت الحياة بالموت والموت بالحياة، أعطت معاني جديدة للشهادة مُختصرة طريق التحرير والعودة. وحدت طقوس العرس الفلسطيني في أبجدية حياة لم يألفها الغزاة والأصدقاء ودول الجوار والموحدين، أعراس الحجر الفلسطيني المتناثرة في أزقة وحواري وأسطح مُخيمات اللجوء الفلسطينية في الضفة وقطاع غزة، والمحمولة بأيدي المقاومين الشعبيين الذين يُحيلونها إلى مقطوعات فنية قابلة للتأليف والتوصيف والابتكار، وأمست الشوارع والبيوت والمساجد والكنائس ساحات مفتوحة لأطفال الحجارة، ولعيون الفنانين التشكيلين ذاكرة بصرية متجددة لشعب مُصمم على استكمال دورة الوجود وتقاسيم الحياة.



من لوحات الفنان الفلسطيني كامل المغني


أعمال فنية تشكيلية تحمل سمات مواطنيها، وأسماء شهدائها وأبطالها، وتضاريس انتفاضاته الشعبية عِبر وسائط تعبير وتقنيات مختلفة، تعبيرية ملتزمة بقوافي الرمز وجدل الواقع ومفاتن التوثيق وتسجيل اللحظات الحاسمة، تعبيرية لا تُغادر رمزاً أو مكاناً أو فسحة لموقف بطولي ومُخيم، تبني جسوراً تفاعلية ما بين الفن والمقاومة، والمقاومة والشعب، انتفاضة تستحضر أنغاماً ومفردات شكلية حافلة بالتراث ورائحة الأرض ومُعمرة بالمجاهدين، تُعيد بناء الجغرافية السياسية والثقافية وفق قواعد لعبة نضالية جديدة، تنسج ملحمة شعبية غير مسبوقة في تاريخ الإنسانية.
اعتمد الفنانون في توصيف أعمالهم على النقل الواقعي التسجيلي حيناً والتعبيرية الواقعية والرمزية في كثير من الأحيان، حيث كانت المساحة والسطوح في اللوحات التصويرية مكشوفة على ذاكرة حافظة وأيادي ماهرة وخبيرة وأساليب تقنية مُجربة، غنية بالخطوط والملونات الحارة والباردة متجانسة وروحية المعركة وحدود المواجهة، وغلبة التفاصيل في المشهد البصري التشكيلي الفلسطيني، بينما نجدها في أعمال النحت مشدودة إلى حركية أقل وملامس ممتدة من السطوح والتجاويف مبنية على أسس مدروسة واختزال تعبيري مقصود، بينما في الملصق السياسي هي جمع ملحوظ ما بين العبارات المكتوبة والصور الضوئية والملونات الخلفية المعبرة عن حالة بطولية هنا وسياسية هناك مفتوحة على دائرة التعامل الأيدلوجي لكل فصيل من فصائل العمل الوطني الفلسطيني، وكذلك الأمر بالنسبة لرسوم الكاريكاتير وهي كثيرة وتفوق في عددها وتنوع أفكارها بالرغم من محدودية رساميها غالبية المُنتج الفني التشكيلي الفلسطيني لخصوصيتها الوظيفية في ميادين الصحافة اليومية والدورية والكترونية، لوحات ورسوم وأعمال فنية فلسطينية مُجتمعة على وهج الفكرة والأهداف المأمولة في إبراز وظيفية الفن التشكيلي في خدمة المقاومة وفصول الانتفاضات الفلسطينية المتلاحقة.





من لوحات الفنان الفلسطيني علي سعيد الأضم